newsare.net
في مشهد يعكس عمق الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الفرنسي، تتوالى المؤشرات السلبية على نحو غير مسبوق: ديون عامة وخاصة تتجاوز 8.6 تريليون دولار وتزدافرنسا تفقد بوصلة النمو.. الانقسام السياسي يعمّق العجز المالي
في مشهد يعكس عمق الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الفرنسي، تتوالى المؤشرات السلبية على نحو غير مسبوق: ديون عامة وخاصة تتجاوز 8.6 تريليون دولار وتزداد كل دقيقة بنحو 450 ألف دولار، أكثر من 60 ألف شركة أفلست منذ بداية العام، ونحو 86% من الشركات الصغيرة والمتوسطة غير قادرة على سداد مستحقاتها. أمام هذه الأرقام القاتمة، تبدو الحكومات الفرنسية المتعاقبة عاجزة عن مواجهة انهيار مالي يهدد ركائز الجمهورية الخامسة. ومع سقوط ست حكومات خلال أقل من ثلاث سنوات، يتقاطع العجز السياسي مع الانهيار الاقتصادي في دوامة غير مسبوقة. فرنسا تفقد ثقة المستثمرين.. والحكومة تكافح لاستعادتها في حديثه لبرنامج «بزنس مع لبنى» على سكاي نيوز عربية، قدّم الدكتور جان مسيحة، المتحدث باسم حزب الاستعادة الفرنسي، قراءة صريحة لأسباب الانهيار الحالي، مشدداً على أن «فرنسا تقف فوق بركان اقتصادي وسياسي يمكن أن ينفجر في أي لحظة». أزمة بلا توازن: حين ينهار الاقتصاد تحت ثقل السياسة يرى مسيحة أن الأزمة الراهنة ليست مالية فحسب، بل هي قبل كل شيء أزمة توازن سياسي مفقود، إذ قال إن «لا يمكن تحقيق توازن اقتصادي دون وجود توازن سياسي»، مشيراً إلى أن غياب الاستقرار داخل مؤسسات الحكم هو ما دفع وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض تقييمها للاقتصاد الفرنسي. ويضيف أن «ست حكومات سقطت في أقل من ثلاث سنوات، وهو مؤشر على تفكك المشهد السياسي، وغياب القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة أو تمرير ميزانيات مستقرة». فحكومة رئيسة الوزراء الحالية تواجه انتقادات عنيفة في البرلمان المنقسم إلى ثلاث كتل متعارضة، ما يجعل تمرير الموازنة أمراً محفوفاً بالمخاطر، وقد يؤدي — بحسب مسيحة — إلى «سقوط الحكومة مجدداً خلال أسابيع». جان مسيحة: حكومة فرنسا عاجزة عن مواجهة أزمتها المالية هذا الشلل المؤسسي جعل الدولة غير قادرة على معالجة الاختلالات الاقتصادية العميقة، «لأنها عاجزة عن مواجهة نفسها»، على حد تعبيره. فغياب الأغلبية البرلمانية يمنع إقرار الإصلاحات، ويزرع الخوف في نفوس المستثمرين المحليين والدوليين الذين باتوا يشكّون في مستقبل الاقتصاد الفرنسي. انهيار الثقة وتداعياته: من البرلمان إلى الأسواق يرى مسيحة أن فقدان الثقة السياسية انعكس مباشرة على الثقة الاقتصادية. فحين تتنازع الكتل الحزبية داخل البرلمان ولا تتفق على خطة واضحة، فإن الأسواق المالية «تقرأ ذلك كإشارة خطر». ويشير إلى أن «عدم التيقن من المستقبل — حتى على المدى القصير — يجعل المصالح الاقتصادية تتراجع، والاستثمارات تتجمد، فيما يفضّل رأس المال الهروب نحو بيئات أكثر استقراراً». وتؤكد الأرقام هذه المخاوف؛ إذ فرّ نحو 800 مليونير من فرنسا منذ بداية العام، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة لافتة، فيما شهدت الأسواق موجة بيع واسعة للأصول الفرنسية من قبل صناديق استثمار عالمية. ميزانية مثقلة بالعجز وخدمة ديون خانقة من بين الأرقام التي تكشف عمق المأزق، يبلغ العجز في الميزانية العامة الفرنسية نحو 195 مليار دولار، بينما تصل تكلفة خدمة الديون وحدها إلى 116 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل أكثر من ميزانية التعليم أو الدفاع. ويقول مسيحة إن المشكلة لا تقتصر على حجم الدين، بل على «غياب الإرادة السياسية لتقليص الإنفاق العام»، موضحاً أن الإنفاق الحكومي في فرنسا يمثل 58% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو من أعلى المعدلات في العالم. ويرى أن أي خطة إنقاذ فعالة «تتطلب سياسة تقشف صارمة»، لكن الحكومة الحالية «تخشى مواجهة الشارع واليسار»، إذ تميل إلى زيادة الضرائب بدلاً من خفض النفقات. «هذا منطق خاطئ وجاهل»، يقول مسيحة، «لأن الدولة لا يمكن أن تخرج من أزمتها بتوسيع الإنفاق ورفع الضرائب في الوقت ذاته». اليسار واليمين: رؤيتان متناقضتان بلا أغلبية يشخّص مسيحة المعضلة الجوهرية في فرنسا بأنها سياسية بامتياز: اليسار يريد مواصلة الصرف العام وتمويله عبر ضرائب جديدة على الأثرياء، فيما اليمين يدعو إلى إصلاح هيكلي صارم وتقليص الإنفاق العام. لكن غياب أغلبية برلمانية لأيٍّ من الطرفين جعل الحلول «عالقة في عنق الزجاجة»، بحسب تعبيره. ويضيف: «الجميع يعرف ما يجب فعله، لكن لا أحد قادر على تنفيذ ذلك لأن لا أحد يملك الأغلبية لتمرير هذه الحلول.» ويحذّر من أن استمرار هذا الانسداد سيقود البلاد إلى «أزمة نظام»، لا مجرد أزمة حكومة، خاصة مع تراجع مكانة فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي وتنامي السخط الاجتماعي على السياسات الاقتصادية. فقدان الهوية الصناعية: حين تراجع الإنتاج يضعف الدولة يتوقف مسيحة مطولاً عند التحول البنيوي في الاقتصاد الفرنسي، قائلاً إن «فرنسا لم تعد دولة صناعية كما كانت قبل 30 أو 40 عاماً»، وهو ما يفسر — في رأيه — التراجع الكبير في الإيرادات الضريبية، إذ «كلما قل عدد الشركات والمصانع المنتجة، تقلصت موارد الدولة من الضرائب، بينما بقي الإنفاق العام على حاله بل ارتفع». ويعتبر أن غياب السياسة الصناعية الفعالة هو «جذر الأزمة الفرنسية»، مشيراً إلى أن «إحياء الصناعة هو الطريق الوحيد لاستعادة التوازن المالي». ويضيف أن فرنسا بحاجة إلى أن تصبح «دولة صديقة للأعمال – Business Friendly» على غرار ما فعلت دول الخليج، وذلك عبر تهيئة بيئة جاذبة للاستثمار، وتسهيل إجراءات تأسيس الشركات، وتخفيض الأعباء الضريبية والبيروقراطية. الطريق إلى الإنقاذ: عودة الثقة قبل الأرقام يرى مسيحة أن استعادة الثقة هي «الشرط الأول لأي تعافٍ اقتصادي»، وهذه الثقة لا تُبنى إلا من خلال «خطة واقعية لتوازن الميزانية». ويشدد على أن «الخطوة الجدية نحو الإصلاح تبدأ من الاعتراف بأن النموذج الاقتصادي القائم منذ نصف قرن قد استُنفد، وأن الدولة لا يمكنها أن تبقى المتحكم الأوحد في الاقتصاد». ويضيف: «علينا أن نعيد الاعتبار للإنتاج والصناعة والمبادرة الحرة. هذا وحده ما سيعيد للدولة إيراداتها ويقلل من البطالة والفقر، اللذين يطالان اليوم أكثر من 11 مليون فرنسي فقير و3 ملايين عاطل عن العمل.» فرنسا فوق فوهة بركان في ختام حديثه، يستخدم مسيحة استعارة لافتة: «نحن فوق بركان قد ينفجر في أي لحظة.» ففرنسا ليست مجرد دولة أوروبية كبرى، بل هي ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي وثاني أكبر ممول للميزانية الأوروبية. ويحذّر من أن «انهيار الاقتصاد الفرنسي لن يكون أزمة محلية، بل زلزالاً يهزّ أوروبا كلها»، خاصة وأن النمو الاقتصادي في القارة العجوز «لم يعد إيجابياً كما كان قبل بضع سنوات». ويخلص مسيحة إلى أن «الموضوع في غاية الخطورة، لأننا أمام تآكل مزدوج: سياسي واقتصادي. فإذا انهار أحدهما، سيسقط الآخر معه». اقتصاد بلا بوصلة تكشف تصريحات جان مسيحة عن أزمة عميقة تتجاوز حدود الأرقام إلى أزمة ثقة في نموذج الدولة الفرنسية ذاته. بلد أنهكته الديون، شلّه الانقسام السياسي، وتراجع فيه الإنتاج إلى أدنى مستوياته منذ عقود. ومع كل دقيقة تمرّ تزداد ديونه بنحو نصف مليون دولار، فيما تغادر الثروات والعقول، وتترنح الحكومات الواحدة تلو الأخرى. في ظل هذا المشهد القاتم، تبدو فرنسا أمام مفترق طرق حاسم: إما إصلاح جذري يعيد التوازن المالي والسياسي، أو استمرار في مسار التآكل البطيء الذي قد يجعل «بركان مسيحة» حقيقة لا مجازاً. Read more











