newsare.net
بثينة عوض- المدن«نحن أطفال حمص العلوية نطالب بحماية دولية، ونقف ضد القتل والسبي والتجويع… نحنا مع الشيخ غزال غزال». لافتةٌ ترفعها طفلالسلطةالسورية الجديدة على المحك: هل تنقذ حمص أم تتركها تنزلق؟
بثينة عوض- المدن«نحن أطفال حمص العلوية نطالب بحماية دولية، ونقف ضد القتل والسبي والتجويع… نحنا مع الشيخ غزال غزال». لافتةٌ ترفعها طفلة صغيرة، موقعة بتاريخ 25/11/2025. وبجوارها يقف شاب يحمل لافتة أخرى كُتب عليها: «من حمص الزهراء الأرمن… نحن مع الاعتصام السلمي. ندعم بصوتنا لأجل كرامتنا والحياة العادلة».وقد أُضيف أسفلها بخط آخر، مطالبات تتعلق بالحماية الدولية والمطالبات بالفيدرالية، فيما كانت الحشود في مدن الساحل تهتف: «يا حمص نحنا معاكِ للموت!».كان المشهد ـ بكل رمزيته ـ مألوفاً للسوريين الذين خرجوا قبل سنوات في وجه النظام البائد من قلب ساحة حمص، على وقع حنجرة الساروت التي هتفت للثورة وأشعلت وجدان المدن.اليوم، تتفاعل الأحداث من جديد مع اقتراب ما يسميه المحتجون «موعد التحرير»، وسط تسجيلات مصورة تُوثق خروج متظاهرين يحتجون على ممارسات الحكم الجديد. وترافق ذلك مع أصوات رصاص في بعض المناطق، بحسب ما تُظهره المقاطع المتداولة، إضافة إلى منع المعتصمين في جبلة من الوصول إلى مركز المدينة.... والحديث عن سقوط ضحايا في اللاذقية على دوار الزراعة حيث تجمع المئات.بداية الحكايةبدأ المشهد الأخير من زيدل، البلدة الواقعة شرق مدينة حمص، حيث عُثر على جثتَي زوجين من أبناء عشيرة البدو. الجريمتان كُشفتا في ظروف تحمل إيحاءات طائفية واضحة؛ من حرقٍ للجثة إلى كتاباتٍ على الجدران توحي برسالة مقصودة. لم يمر الخبر كحادثة جنائية عابرة، بل هز المدينة سريعاً، وأعاد إلى ذاكرة السوريين مشاهد الانشقاق الطائفي في عام 2011 وما تلاه من أعوام دامية.وبعد ساعات قليلة فقط، خرجت مجموعات غاضبة من أبناء العشيرة، وهاجمت الحي العلوي في المدينة. اشتعلت سيارات، وسُجلت إصابات، وارتفعت المخاوف من انزلاقٍ أكبر يُعيد إنتاج دوامة الفتنة. أمام هذا المشهد، فرضت السلطات حظر تجول، ثم مددته عدة مرات، في محاولة لاحتواء احتقانٍ بدا أنه يفوق قدرة الإجراءات الأمنية التقليدية.غير أن رد الفعل الشعبي لم يتخذ شكل الانتقام فحسب، بل تحول ـ على نحو مفاجئ ـ إلى فرصة لتحركٍ من نوعٍ مختلف… تحركٍ أراد كثيرون من خلاله كسر الحلقة الطائفية لا تدويرها.غزال غزالفي ذروة التوتر، خرج الشيخ غزال غزال بدعوةٍ علنية موجهة إلى السوريين جميعاً، من دون استثناء منطقة أو طائفة. دعا الرجل إلى اعتصامات سلمية شاملة، محذراً من الانجرار خلف ردات الفعل الطائفية، ومؤكداً أن جريمة زيدل ـ مهما كانت بشاعتها ـ لا يجوز أن تتحول إلى منصة لإعادة إنتاج الانقسام ولا إلى شرارة لفتنة جديدة.الدعوة لم تكن «محلية» بأي معنى، ولم تُصغ لأهالي حمص وحدهم، بل خُصصت للساحل ودمشق ودرعا والسويداء وسائر المدن السورية، كأن غزال غزال أراد أن يقول إن الشرخ الطائفي إذا فُتح في مكانٍ واحد، فسينعكس على الجميع. صحيح أن المحرك المباشر كان أحداث حمص، لكن الرسالة حملت مضموناً واسعاً: السوريون جميعاً مهددون حين يُفتح الباب للثأر الطائفي.وما حدث لاحقاً كان مفاجأة بمقاييس اللحظة السورية: فقد خرجت تظاهرات سلمية في حمص، ثم في طرطوس واللاذقية، في مشهد غير مألوف منذ سنوات طويلة. تجمّع المتظاهرون يهتفون ضد الطائفية، ويطالبون بالعدالة، وبإيقاف الانزلاق نحو فوضى قد لا تُبقي ولا تذر. ورغم الاستنفار الأمني في مدن الساحل، لم تُغلق الشوارع بالكامل، بل بدا أن الأجهزة تتعامل بحذر مع مشهد لم تختبره منذ زمن.الدعوة التي أطلقها غزال غزال لم تكن تهدف إلى تبريد لحظة غضب عابرة؛ بل حملت رؤية سياسية ضمنية، حين طرح الرجل اللامركزية الإدارية والسياسية كضمانة لعدم تفكك البلاد ولإعادة توزيع السلطة بما يخفف الاحتقان. وهو موقف يعيد إلى الأذهان ما قاله سابقاً الشيخ حكمت الهجري في السويداء، حين دعا إلى اللامركزية قبل أن تتطور مطالب محافظته لاحقاً نحو نماذج من الإدارة الذاتية و«الاستقلال الإداري».بهذا الخطاب، دخل غزال غزال إلى المشهد السوري ليس بوصفه رجل دينٍ فحسب، بل كصوتٍ يحاول إعادة صياغة مفهوم «المسؤولية المشتركة» في واحدة من أكثر اللحظات الوطنية حساسية منذ سنوات.ويبقى السؤال: لماذا تبدو حمص تحديداً الاختبار الأوضح لسورية؟أولاً: التنوع الطائفي… مرآة البلد كلهفحمص لم تتشكل يوماً على نسيج واحد، بل قامت على تركيبة معقدة تضم السُنة والعلويين والمسيحيين والبدو والأرمن. وكل حي فيها يشبه قطعة من الخريطة السورية الكبرى. لهذا، فإن أي اهتزاز داخل المدينة لا يُقرأ كحدث محلي معزول، بل كمؤشر وطني على مزاج البلاد واستقرارها ومستقبل العيش المشترك فيها.ثانياً: الجغرافيا… قلب الوصل وحلقة التوازنتقع المدينة على خطوط مفصلية تربط دمشق بالساحل، والشمال بالبادية، والداخل بالشرق. ولذلك، فإن أي اضطراب فيها ينعكس تلقائياً على حركة المحافظات وعلى توازن القوى، بل وعلى استقرار الساحل السوري نفسه. من يسيطر على حمص يملك ـ عملياً ـ مفاتيح الحركة بين أهم محافظات البلاد.ثالثاً: ذاكرة 2011… المدينة التي حملت لقب «عاصمة الثورة»لم تكن حمص مجرد مدينة خرجت فيها احتجاجات عام 2011؛ كانت أحد أكثر مراكز الحراك السلمي زخماً وتأثيراً، قبل أن تتحول لاحقاً إلى بؤرة اشتباك عنيفة. ومن هنا نشأت رمزيتها: إذا انهارت حمص، انهار معها جزء من فكرة سوريا الواحدة. وإذا تماسكت ـ رغم الجراح ـ دل ذلك على إمكانية إعادة بناء التوازن الوطني.ما بعد التحريررغم أن السلطة الجديدة في سوريا كانت قد استعادت السيطرة على مدينة حمص بعد سقوط نظام الأسد قبل نحو عام فقط، بقيت البنية الاجتماعية هشة، ولم تُترجَم جهود إعادة تنظيم الإدارة المحلية وإطلاق مشاريع الإعمار الأولى إلى عودة فعلية للثقة بين الأحياء والطوائف. لذلك، ما إن وقعت جريمة زيدل حتى انكشفت الشقوق الكامنة سريعاً، وكأن المدينة كانت تقف على سطحٍ يبدو متماسكاً من الخارج، لكنه هش ومتصدع في العمق.غير أن المشهد الأبرز خلال الأسبوع الأخير لم يكن التوتر وحده، بل عودة الشارع السوري إلى الفعل السياسي السلمي. فالتظاهرات التي خرجت في حمص واللاذقية وطرطوس لم ترفع شعارات سياسية مباشرة، لكنها رفعت ما هو أكثر حساسية وخطورة: رفض الطائفية، المطالبة بالمحاسبة والدعوة إلى عدالة واحدة فوق جميع الطوائف.هذا النوع من الخطاب ليس مألوفاً في بيئة أثقلها الفقر والإنهاك الأمني، لكنه يكشف عن أن السوريين ـ رغم كل الظروف ـ ما زالوا يرون في الشارع مساحة ممكنة حين تُغلق في وجوههم المسارات الأخرى.أما خروج تظاهرات في الساحل تحديداً، فقد حمل دلالات مضاعفة. فهذه المناطق، التي ارتبطت طويلاً في الخطاب الإعلامي بوصفها «معقلاً للموالاة»، خرجت هذه المرة لتقول بصوت واضح: الأمن الطائفي ليس ضمانة… والعدالة حق لا يمكن تجزئته أو مصادرته.حمص كاختبارما يجري في حمص يشكل اختباراً مباشراً لقدرة السلطة الجديدة في سوريا على إدارة التنوع. فالمؤسسات الرسمية مطالَبة اليوم بإثبات أنها قادرة على حماية المواطنين بلا استثناء، ودون أي محاباة طائفية أو مناطقية. وأي تقصير أو غياب للعدالة في كشف ملابسات جريمة زيدل ومحاسبة مرتكبيها سيعيد فتح الباب أمام خطابٍ خطير مفاده «كل طائفة تحمي نفسها»، وهو خطاب يهدد بنسف ما تبقى من العقد الاجتماعي السوري الهش.التظاهرات التي خرجت في حمص والساحل كشفت، في المقابل، أن المجتمع ـ رغم الإنهاك الاقتصادي والأمني ـ لا يزال قادراً على إعادة إنتاج لغة سياسية غير عنيفة. وهو مؤشر إيجابي، لكنه يحتاج إلى حماية سياسية وقانونية كي لا يتحول إلى لحظة عابرة تُجهض سريعاً تحت وطأة الخوف أو الضغوط.ويمتد الاختبار أيضاً إلى الخطاب الديني والقيادات المحلية؛ فدعوة الشيخ غزال غزال قدمت نموذجاً لمقاربة دينية وسياسية جديدة تجمع بين: التهدئة، العدالة، اللامركزية ورفض الطائفية.وهذا النوع من الخطاب قد يشكل، إذا ما استمر وتوسع، قاعدةً بديلة لإدارة الأزمات في مناطق أخرى تشهد توترات مشابهة.الجدل حول اللامركزية عاد بقوة بعد دعوة غزال، تماماً كما حدث سابقاً في السويداء بعد تصريحات الشيخ حكمت الهجري. لكن اليوم هناك بعدٌ إضافي: مطالب الأكراد، حيث صرح قائد «قسد» مظلوم عبدي بأنهم يدعون إلى «دولة لامركزية مدنية وعادلة، تُحترم فيها الحقوق القومية وتُمنح المناطق صلاحيات فعلية في إدارة شؤونها»؛ أي ليس انفصالاً وإنما توزيع صلاحيات أوسع.وهنا السؤال المطروح اليوم أكثر حساسية: هل تستطيع السلطة الجديدة في سوريا، وهي التي أعلنت تبني اللامركزية نظرياً، أن تستوعب نموذجاً عملياً يُخفف التوترات ويعيد توزيع الصلاحيات؟ أم أن المركزية الصلبة ستبقى الخيار الوحيد الذي يُراهن عليه، رغم كلفته السياسية والاجتماعية؟السيناريوهات… إلى أين تتجه حمص؟أولاً: سيناريو التهدئة المنظمةوهو السيناريو الأكثر أملاً، ويتحقق إذا جرى الاعتقال الفعلي للمتورطين في جريمة زيدل، وأُعلن ذلك بشفافية للرأي العام، بالتوازي مع استكمال خطوات المصالحة بين الأحياء، واستخدام الدعوات السلمية كأداة ضغط إيجابية على السلطة الجديدة لضمان العدالة ومنع تكرار الاحتقان.تحقق هذا المسار قد يجعل من حمص نموذجاً قابلاً للتكرار في إدارة التوتر الطائفي داخل سوريا.ثانياً: سيناريو التهدئة الظاهرية مع احتقانٍ مكتوموهو أخطر من المواجهة المفتوحة، لأن الغضب يبقى كامناً تحت السطح، ما يجعل انفجاره لاحقاً أكثر عنفاً وأقل قابلية للسيطرة. في هذا السيناريو، تبدو المدينة هادئة في ظاهرها، لكنها تحمل توترات لا يمكن التنبؤ بلحظة انفجارها.ثالثاً: سيناريو الانزلاق الطائفيوهو السيناريو الذي تتخوف منه غالبية السوريين: توسع الاحتكاكات، ظهور مجموعات مسلحة صغيرة وفقدان السيطرة الأمنية على الأرض.هذا السيناريو ـ إن وقع ـ لن يبقى محصوراً بحمص، بل سيمتد حتماً نحو الساحل ودمشق ومناطق أخرى شديدة الحساسية، بحكم الترابط الجغرافي والاجتماعي والسياسي.لماذا تُوحدنا حمص… أو تفرقنا؟لأن المدينة ليست مجرد «نقطة على الخريطة»، بل عقدة وصل بين كل ما يجعل سوريا بلداً واحداً: الجغرافيا، الاقتصاد، الطوائف، الذاكرة والرمزية الوطنية.فحين تتوحد حمص، تتراجع احتمالات الانقسام الوطني؛ وحين تتصدع، تشعر البلاد كلها بأنها تقف على الحافة. هذا ليس توصيفاً رمزياً ولا مبالغة عاطفية. إنه واقع أثبتته تجربة 2011–2014، ويعيد تأكيده ما يجري اليوم.ما بعد حمصلا مبالغة في القول إن ما يحدث في حمص خلال هذه الأيام سيحدد ملامح المرحلة المقبلة في سوريا. فالجريمة لم تعد جريمة فردية، والتوتر لم يعد حالة محلية، والاعتصامات لم تعد رد فعل عابر.هناك مشهد وطني جديد يتشكل: تداخل بين المطالب المدنية، والدعوات الدينية، واللحظة الطائفية، وذاكرة الحرب، والخوف العميق من تكرار الماضي. وفي قلب هذا كله، تقف حمص كمختبر مفتوح، هل يستطيع السوريون إعادة بناء الثقة؟ هل تستطيع السلطة الجديدة إثبات أن القانون فوق الجميع؟ هل يستطيع الشارع إنتاج حركة سلمية مستدامة دون انزلاق؟ وهل تستطيع البلاد أن تتعلم من درس حمص قبل أن يتكرر في مدن أخرى؟الإجابات ليست جاهزة بعد.لكن المؤكد أن سوريا تُكتب اليوم من قلب حمص… وما سيحدث هنا لن يبقى هنا. Read more











