newsare.net
في عالمٍ يتقلب على وقع الأزمات الجيوسياسية والمالية، يطلّ الذهب مجددًا كـ«الحكم الأخير» في لعبة الثقة العالمية. لم يعد السؤال اليوم ما إالعالم يشتري الثقة بالذهب.. بعد أن خسرها بالدولار
في عالمٍ يتقلب على وقع الأزمات الجيوسياسية والمالية، يطلّ الذهب مجددًا كـ«الحكم الأخير» في لعبة الثقة العالمية. لم يعد السؤال اليوم ما إذا كان سعر الأونصة سيواصل الارتفاع، بل إلى أي مدى يمكن لهذا الصعود أن يمتد، وإلى متى سيبقى الذهب محافظًا على بريقه كأكثر الأصول أمانًا في وجه اقتصاد يتغير ملامحه بسرعة. بحسب مجلس الذهب العالمي، فإن أسعار الذهب مرشحة لمزيد من الارتفاع خلال الفترة المقبلة، مدفوعة بجملة من العوامل، في مقدمتها توقعات خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وتصاعد المخاوف من تصحيحات واسعة في أسواق الأسهم العالمية، إلى جانب استمرار التوترات الجيوسياسية والضغوط التي يتعرض لها الدولار الأميركي. وفي الوقت نفسه، لا يستبعد المجلس حدوث عمليات جني أرباح محدودة قد تدفع الأسعار إلى تراجع طفيف مؤقت، لكنه يرى أن الاتجاه العام يبقى صعوديًا. طفرة غير مسبوقة في أسعار الذهب تجاوز سعر أونصة الذهب 4200 دولار، محققًا ارتفاعًا قياسيًا بنسبة 60 بالمئة منذ بداية العام الجاري، وهو أكبر صعود منذ 46 عامًا. هذه الأرقام ليست عابرة، بل تعبّر عن تحوّل عميق في بنية الطلب العالمي. فمنذ مطلع العام، اشترت البنوك المركزية نحو 14.3 مليون أونصة، فيما ضخت صناديق الاستثمار نحو 20.4 مليون أونصة في محافظها، في ما يشبه إعادة توزيع جذرية لرؤوس الأموال على خريطة الأصول العالمية. وتتفق مؤسسات مالية كبرى مثل بنك أوف أميركا وغولدمان ساكس وسوسيتيه جنرال على أن الأسعار قد تواصل ارتفاعها لتصل إلى 5000 دولار للأونصة خلال العام المقبل، في حال استمر ضعف الدولار واستقرت السياسات النقدية عند مستويات الفائدة المنخفضة. ساسين: العالم يشهد نقطة تحوّل هيكلية في حديث إلى برنامج «بزنس مع لبنى» على سكاي نيوز عربية، قال أنطوني ساسين، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة OCEANE Invest، إن العالم يعيش «نقطة تحوّل كبرى» في الدورة الاقتصادية، مؤكدًا أن التحولات الجارية في موازين القوى العالمية تدفع المستثمرين نحو إعادة بناء محافظهم بعيدًا عن الأصول الأمريكية التقليدية. وأوضح ساسين أن «هيمنة الدولار والأصول الأميركية التي استمرت منذ أزمة 2008 بدأت تتآكل تدريجيًا»، مشيرًا إلى أن دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أسهم في تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية. OCEANE Invest: ضعف الأصول الأميركية يشعل بريق الذهب وقال: «ترامب يسعى إلى خفض أسعار الفائدة وتقليص قوة الدولار لتشجيع الصادرات الأميركية، لكنه بذلك يدفع المستثمرين نحو البحث عن بدائل أكثر استقرارًا، وعلى رأسها الذهب». وأضاف: «نحن أمام مرحلة جديدة تتراجع فيها شهية المستثمرين للأصول الأميركية، مقابل زيادة الطلب على الأصول الدولية، خصوصًا الذهب والفضة وبعض العملات مثل اليورو واليوان الصيني». الدولار يفقد بريقه في موازاة صعود الذهب، تتزايد الضغوط على الدولار الأميركي، الذي يواجه، بحسب ساسين، «نزولًا تدريجيًا قد يتراوح بين 10بالمئة و20بالمئة خلال السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة». ويُرجع الخبير ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية: استخدام الدولار كسلاح سياسي في العقوبات وتجميد الأصول، ما أثار قلق العديد من الدول ودفعها إلى تنويع احتياطاتها. السياسات التوسعية لإدارة ترامب التي تهدف إلى تعزيز تنافسية الصادرات عبر عملة أضعف. بلوغ الاقتصاد الأميركي مرحلة تشبّع بعد خمسة عشر عامًا من النمو القوي، ما يفرض، بطبيعة الدورات الاقتصادية، فترة تباطؤ تصحيحية. ويرى ساسين أن ضعف الدولار يصبّ مباشرة في مصلحة الذهب، الذي يعود ليؤدي دوره التاريخي كـ«عملة الثقة»، خاصة في ظل تزايد عدم اليقين السياسي والاقتصادي عالميًا. البنوك المركزية تغيّر قواعد اللعبة التحول الأبرز في المشهد، بحسب ساسين، يتمثل في دخول البنوك المركزية كمشترٍ أساسي للذهب، ليس بغرض المضاربة، بل لبناء احتياطيات استراتيجية طويلة الأمد. وقال: «البنوك المركزية ليست متداولين، بل تحتفظ بما تشتريه ضمن أصولها الاستراتيجية، وهذا ما يقلص من العرض المتاح في السوق، ويجعل أي تراجع في الأسعار محدودًا بطبيعته». وأشار إلى أن الصين، على سبيل المثال، لا تزال تمتلك احتياطي ذهب يعادل 1بالمئة فقط من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 12بالمئة في اليابان، ما يعني أن أمامها مجالًا واسعًا لمواصلة الشراء في السنوات المقبلة. وأضاف أن «عمليات استخراج الذهب الجديدة تتطلب في المتوسط سبع سنوات قبل أن تدخل الإنتاج، ما يعني أن جانب العرض لا يمكن أن يتوسع بالسرعة التي يتوسع بها الطلب»، مؤكّدًا أن هذه المعادلة «تؤسس لقاعدة صلبة للأسعار المرتفعة». بين الصين وأميركا... الاقتصاد والسياسة في سباق واحد يرى ساسين أن القيود التي فرضتها الصين مؤخرًا على تصدير المعادن النادرة تمثّل ورقة ضغط إضافية في التنافس مع الولايات المتحدة، وأن هذه التطورات تنعكس على الأسواق كافة، بما في ذلك الذهب. وقال: «الصين تبرر قيودها بأنها لحماية السلام العالمي ومنع استخدام المعادن في الصناعات العسكرية، لكن واشنطن تراها محاولة للهيمنة على سلاسل الإمداد. ومع اقتراب جولة جديدة من المفاوضات بين الرئيس شي جين بينغ والرئيس ترامب في كوريا الجنوبية، يبدو المشهد متجهًا إلى مواجهة اقتصادية مفتوحة». ويضيف أن تصاعد هذا النوع من التوترات يجعل المستثمرين أكثر ميلًا إلى التحوط بالذهب، في ظل «عدم اليقين الهيكلي» الذي يخيّم على العلاقات الدولية. الذهب كعملة ثقة في نظام عالمي متغير بحسب الخبير الاقتصادي، فإن الذهب اليوم «أكثر من مجرد أصل استثماري»، بل أصبح عملة موازية تعكس مدى الثقة أو القلق في النظام المالي العالمي. ويقول: «عندما يزداد الخوف، يقيس العالم قيمة الأمان بالذهب، لا بالدولار. وهذا ما نراه الآن مع ازدياد الطلب من الحكومات والمستثمرين على حد سواء». ويرى أن بناء «قواعد جديدة للذهب» يعني أن الأسعار باتت تستند إلى طلب مؤسسي يصعب كسره، وليس إلى موجات مضاربة عابرة كما في السابق. ومع ذلك، يلفت إلى أن الأسواق تظل قابلة للتقلبات على المدى القصير، بفعل جني الأرباح أو تحسن طارئ في بعض المؤشرات الاقتصادية. نحو توازن عالمي جديد من الواضح أن التغيرات في السياسة النقدية الأميركية، والتحولات في مراكز القوة الاقتصادية، والضبابية الجيوسياسية جميعها تصب في مصلحة الذهب على المدى المتوسط والطويل. لكن هذا الاتجاه لا يخلو من احتمالات مفاجئة، كما يوضح ساسين: «إذا تحسّنت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة أو استقرت الأسواق العالمية، فقد نشهد فترة استراحة مؤقتة في مسار الذهب. إلا أن كل المؤشرات الحالية تؤكد أننا ما زلنا في بداية دورة صعودية مدعومة بمعطيات حقيقية وليست ظرفية». بين الحكمة والمغامرة في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الإجابة على سؤال المستثمرين اليومي «هل نشتري الذهب أم نبيع؟» لا تحتاج كثيرًا من الغموض. البيع الآن يبدو رهانًا محفوفًا بالمخاطر ضد تيار عالمي متصاعد، بينما الشراء المدروس، في ظل وعي بمواقيت السوق ودورات جني الأرباح، يظل الخيار الأكثر انسجامًا مع منطق المرحلة. فالعالم، كما يصفه ساسين، يعيش لحظة إعادة توزيع للثقة، والذهب الذي لطالما كان ملاذ الخائفين يعود اليوم ليكون ركيزة الآمنين في اقتصاد فقد يقينه، لكنه لم يفقد بعد بريقه. Read more